عندما نتحدث عن السينما المغربية، غالبا ما ينصب النقاش على الإنتاج، التمويل، التوزيع، أو الحضور في المهرجانات الدولية. لكن قلما نلتفت إلى لب القضية: من هو الجمهور؟ وما طبيعة ثقافته السينمائية؟ لأن صناعة السينما لا يمكن أن تقوم على منتجين ومخرجين فقط، بل تحتاج إلى قاعدة جماهيرية واسعة، مثقفة وواعية، قادرة على دعم السوق المحلي وصناعة اقتصاد سينمائي متكامل.
الجمهور بين الترفيه والوعي
اليوم، لا أحد ينكر أن غالبية الجمهور المغربي ينجذب إلى الأفلام التجارية الخفيفة، خاصة الكوميدية منها. وهذا أمر مفهوم، فالمتفرج يبحث عن الضحك والهروب من ضغوط الحياة اليومية. لكن النتيجة الواضحة هي أن الأفلام الجادة، التي تصنف ضمن سينما المؤلف، تنطفئ بسرعة من قاعات العرض، رغم أنها تحصد نجاحات لافتة في الخارج، وتحمل قيمة فنية وفكرية عالية.
هنا نطرح سؤالا أساسيا: لماذا لا يجد هذا النوع من الأفلام جمهوره الطبيعي في المغرب؟ الجواب يكمن في غياب ثقافة سينمائية متينة داخل المجتمع. المشاهد الذي لم يتعلم أبجديات السينما في المدرسة، ولم يمنح فرصة لاكتشاف هذا الفن كأداة للتفكير والنقاش، سيظل مرتبطا فقط بما هو سهل ومباشر.
التجارب الدولية: دروس بليغة
في فرنسا مثلا، وابتداء من المدرسة الابتدائية، يتم إدماج برامج لمشاهدة الأفلام وتحليلها ومناقشتها داخل الأقسام الدراسية. الطفل هناك لا يكتفي بالضحك أو البكاء داخل قاعة السينما، بل يتعلم كيف يحلل الصورة، كيف يقرأ الرموز، وكيف يربط بين السينما والمجتمع والتاريخ.
وبعض الدول العربية بدورها شرعت في اعتماد مبادرات لتقريب السينما من التلاميذ والطلبة، إدراكا منها أن بناء صناعة قوية يبدأ من تكوين جمهور مثقف وواع، قادر على دعم الإنتاج الوطني وإعطائه استمرارية.
مبادرات وطنية تستحق التنويه
لحسن الحظ، بدأ المغرب يعرف بعض المبادرات التي تكسر هذا الجمود. أبرزها النهائيات الوطنية لمسابقة «سينما» ضمن مشروع «مدرستنا – الإعداديات الرائدة»، التي احتضنها مركب Pathé بالدار البيضاء. هناك، وقفنا أمام تجربة مدهشة: تلاميذ من 12 جهة يمثلون حوالي 250 إعدادية رائدة، قدموا أفلاما قصيرة تعالج قضايا كبرى مثل التحرش، الهجرة، الفقر والعلاقات الاجتماعية.
ما أدهش الحاضرين ليس فقط جودة هذه الأعمال، بل وعي التلاميذ بقدرة السينما على التعبير عن قضايا مجتمعهم. لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج نبيل عيوش، وضمت أسماء لامعة مثل الممثلة سامية أقريو، والمخرج إسماعيل فروخي، والناقد سعيد مزواري، أثنت على مستوى الأعمال والقدرة الإبداعية لهؤلاء الشباب. هذه المبادرات تعطينا إشارة واضحة: إذا منحنا الفرصة للتلاميذ، وقدمنا لهم الأدوات اللازمة، فإن المدرسة يمكن أن تتحول إلى مختبر سينمائي حقيقي.
من المبادرة إلى السياسة العمومية
لكن المبادرات، مهما كانت ناجحة، تبقى محدودة في الزمان والمكان. المطلوب اليوم هو انتقال من التجربة إلى السياسة العمومية: أن تتبنى وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي مشروعا واضحا لإدماج مادة السينما في المقررات. الأمر لا يحتاج إلى موارد ضخمة بقدر ما يحتاج إلى إرادة سياسية صريحة.
يمكن البدء تدريجيا، عبر وحدات بسيطة في الإعدادي والثانوي، تتيح للتلاميذ مشاهدة بعض الأفلام المغربية والعالمية، ثم مناقشتها مع أساتذة تلقوا تكوينا في هذا المجال. هذا المسار سيؤدي خلال سنوات قليلة إلى خلق جيل كامل يتقن لغة الصورة، ويمتلك أدوات النقد، ويستطيع أن يميز بين الفيلم الجيد والرديء.
القانون 18.23: إشارة قوية
جدير بالذكر أن القانون الجديد 18.23 المتعلق بالصناعة السينمائية، الذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من شتنبر 2025، نص على إحداث لجنة المشاهدة التي تضم في عضويتها ممثلا عن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي. وهذه إشارة بالغة الدلالة، لأنها تؤكد أن الحكومة واعية بضرورة ربط السينما بالمدرسة، وأن التربية الفنية لم تعد مسألة هامشية، بل جزءا من الرؤية الوطنية لبناء صناعة سينمائية قوية.
السينما كرافعة اقتصادية
السينما ليست مجرد فن جميل أو ترف ثقافي. إنها أيضا صناعة قادرة على خلق الثروة وفرص الشغل. حين يكون لدينا جمهور واع ومتعلم، فإن كل تذكرة سينما تباع، وكل فيلم تتم متابعته عن وعي، هو استثمار في اقتصاد ثقافي يرفد خزينة الدولة ويعزز صورة المغرب في الخارج.
نحن نتحدث عن منظومة متكاملة: كتاب سيناريو، مخرجون، تقنيون، موزعون، نقاد، صحافة متخصصة، وقاعات عرض. وكل حلقة من هذه السلسلة تحتاج إلى جمهور يفهم قيمتها. بدون هذا الجمهور، ستظل السينما الوطنية معتمدة بشكل شبه كلي على الدعم العمومي، ولن تتحول إلى صناعة مستقلة وقوية.
لقد طال انتظار هذا الورش. واليوم، ونحن نعيش تحولات عميقة في الصناعة السينمائية بفضل دخول القانون 18.23 حيز التنفيذ، لا يمكن أن نغفل عن الجانب الثقافي والتربوي. إدراج مادة السينما في المدرسة هو الخطوة التي ستمنح لهذه التحولات عمقا مجتمعيا وجماهيريا.
من هنا، أجدد الدعوة إلى وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي لفتح هذا الورش، بشراكة مع المركز السينمائي المغربي والغرف المهنية والفاعلين الثقافيين. الأمر ممكن، والتجارب الناجحة قريبة منا. المطلوب فقط أن نؤمن بأن السينما ليست ترفا، بل ضرورة حضارية واقتصادية.